العالم العربي

السخط علی “حزب الله” يطال معقله في ضاحية بيروت الجنوبية

 


3/11/2017 

رغم أنّ انخراط حزب الله في النزاع السوري وسّع دوره العسکري والسياسي اقليميا، إلا أنه عاد بالوبال علی البيئة الشيعية في لبنان، والتي کشفت احتجاجات الاحياء الفقيرة فيها مؤخرًا سيرها الحثيث نحو صراع طبقيّ.

من النادر أن يتمرّد سکان الضاحية الجنوبية لبيروت علی حزب الله، فالمنطقة تعتبر الخزان البشري الذي يزود حزب الله بالمقاتلين المنضبطين، الذين لا يغيرون ولاءهم بسهولة، فهم سنده الشعبي، والأرضية التي يقف عليها لبلوغ أهدافه.
وعلی غير المتوقّع، شهدت ضاحية بيروت الجنوبية، حملة تمرّد ضدّ “حزب الله” علی خلفية إزالة بعض المخالفات في منطقة حي السلّم الفقيرة، ولم يتورّع بعض الشباب والنساء الغاضبين عن توجيه شتائم إلی أمين عام الحزب علی شاشات التلفزة مباشرة، متهمين إياه بالاهتمام بسوريا، وإرسال الشباب للموت هناک، علی حساب الوطن وأولويات الفقراء.
احتجاج نادر
بدأت الواقعة فجر 25 أکتوبر الماضي، عندما قامت القوی الأمنية اللبنانية بتنفيذ قرار “بلدية منطقة حي السلم” في الضاحية الجنوبية، بالتصدي لمخالفات تتعلق ببناء محال تجارية وأکشاک غير مرخّص لها.
أزالت الجرافات کافة الکافيتريات والأکواخ الموجودة في الحي، من ضمن حملة واسعة للتصدي للتجاوزات علی الملک العام داخل المنطقة، إلا أن ذلک استفز الأهالي وأصحاب تلک المصالح، الذين اندفعوا غاضبين إلی الشوارع، وقاموا بإغلاق الطرقات بالإطارات المشتعلة استنکاراً لما حصل، قبل أن تنطلق موجة نادرة من السخط ضد الحزب.
هذه المرة، ظهر المحتجون علی شاشات التلفزيون وهم لا يشتمون الحکومة بل “حزب الله” وأمينه العام السيد حسن نصرالله، الذي حمّلوه مسؤولية خسارة مصدر رزقهم، وما نتج عن الحرب في سوريا.
وبحسب ما نقلت الصحافة المحلية في لبنان، خاطبت إحدی النساء نصر الله بعد أن تم تدمير متجرها الذي کان مصدر دخلها الوحيد: “قدمنا لک جميعاً شهداء في سوريا. لدَيّ ثلاثة أبناء أصيبوا بجروح، وهکذا تُعاملنا؟” وصرخ رجل آخر أمام الکاميرا: “لتذهب سوريا إلی الجحيم، مع حسن نصر الله!”
حماية مصالح المخالفين
المحلات التجارية التي تمّ هدمها، قائمة في الضاحية منذ عقود، وقد وفّر لها مقاتلو “حزب الله” الحماية من أي محاولات لإزالتها.
وفي لبنان، لا تتدخل السلطات الأمنية الحکومية في الضاحية الجنوبية مطلقاً إلا بعد التنسيق مع مسؤولي “حزب الله»”، وهنالک انطباع لدی الحکومة ولدی اللبنانيين أن حزب الله غالباً ما يسمح بالأعمال غير القانونية ويخفي المجرمين. غير أنه هذه المرة، لم يکلّف نفسه عناء إبلاغ السکان المحليين بحملة إزالة المخالفات التي ستستهدفهم.
 



أکشاک ومحلات بعد هدمها في حي السلّم
وفي التغطية الإعلامية للاحتجاجات غير المألوفة ضد حزب الله في معقله، وبينما نقلت محطات التلفزة الاحتجاجات مباشرة علی الهواء، حمّل الأهالي حسن نصر الله مسؤولية ما حصل واتهموه بالتقصير، وقاموا بنشر تعليقات علی صفحات التواصل الاجتماعي تتضمن الکثير من الشتائم والسباب التي طالت حزب الله وأمينه العام، کما انبری شاب إلی توجيه شتائم وعبارات حادة علی الهواء مباشرة طالت نصرالله شخصياً، متهما إياه بإرسال شباب الحزب للموت في سوريا، بينما ينسی الفقراء في لبنان، معتبراً أن کل «همّ نصرالله الوحيد هو المشروع الفارسي وليس لقمة عيش الفقير».
وأکد لقاء “نداء الدولة والمواطنة” أنّ “ما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت ليس مقبولاً بأي شکل من الأشکال، وهو حصل بتغطية من حزب الله وحرکة أمل، وهما الطرفان اللذان يتحملان مسؤوليته بالدرجة الأولی”.
واعتبر “اللقاء” الذي يضمّ شخصيات سياسية وإعلامية اجتماعية معارضة للحزب، أن “تعميم ثقافة المخالفات هي نتيجة إشعار حزب الله وحرکة أمل کلّ مواطن شيعي وکلّ مقيم في الضاحية، بأنّه في منأی عن القانون تحت عنوان (کُن مع حزب الله وافعل ما شئت)، والسبب الأساسي هو إيهام الناس بأن الشيعة مواطنون فوق القانون، لمجرد أنّ بينهم من يقاتل في سوريا و(حزب الله) هو الذي أوهم الشيعة، أنّ الدولة ملک أيمانهم وأنّ القوانين وجدت للطوائف الأخری”.
طبقيّة تطل برأسها؟
في ورقة بحثية نشرها “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنی”، تشير حنين غدار، وهي زميلة زائرة في زمالة “فريدمان” الافتتاحية في معهد واشنطن، ومديرة تحرير سابقة للنسخة الانکليزية لموقع NOW الإخباري في لبنان، إلی أنّ الطبقية صارت واقعًا في المجتمع الشيعي اللبناني، وأن قيادات کبيرة في حزب الله تتمتع بامتيازات “اقتصاد الحرب” الذي ظهر مع انخراط الحزب في الحرب السورية، مقابل تهميش کبير يتعرّض له شيعة لبنان الأکثر فقرا.
وتقول الباحثة في ورقتها: “ليس من قبيل الصدفة أن يحصل هذا التمرد الاستثنائي في أحد الأحياء الأکثر فقراً في الضاحية. وبقدر ما غيّرت الحرب السورية “حزب الله” من الناحية العسکرية ووسعت من دوره الإقليمي، فقد غيّرت أيضاً المجتمع الشيعي في لبنان وتصوراته عن الحزب. وأصبحت الانقسامات الطبقية في الضاحية أکثر حدة من أي وقت مضی – حيث توفر الأحياء الفقيرة المقاتلين في حين تستفيد أحياء الطبقتين المتوسطة والعليا والغنية من الحرب.
 



وفي حي السّلم، يُلاحَظ أن ملصقات “الشهداء” تغطي الجدران، وأن جنازات الشباب أصبحت حدثاً يومياً. فالحرب موجودة في کل بيت، حيث ترکز التقارير الإخبارية والمناقشات علی المعارک السورية والوفيات. ولکن الحرب بعيدة جداً في أحياء أخری، ويرجع ذلک إلی حد کبير إلی أن الشيعة الأثرياء لا يرسلون أبناءهم للقتال. بل علی العکس من ذلک، استفاد العديد من مسؤولي “حزب الله” من اقتصاد الحرب لتوسيع استثماراتهم المحلية. وتزدهر الآن المحلات التجارية والمطاعم والفنادق والمقاهي في مناطق الرخاء في الضاحية والجنوب.
فجوة الثراء
تساعد فجوة الثراء المتزايدة، بتعبير غدار، علی تفسير أعمال الشغب التي وقعت في الاسبوع الاخير من أکتوبر، حيث أعرب الفقراء عن استيائهم من مسؤولي “حزب الله”، الذين يعيشون في شقق فاخرة، ويقودون سيارات جديدة، ويرسلون أبناءهم إلی المدارس الخاصة والجامعات في أحياء أخری. وفي السابق، کان يتمّ احتواء هذا الاستياء لأن “حزب الله” حافظ علی دوره کحامٍ لجميع أبناء الطائفة الشيعية، سواء کانوا أغنياء أم فقراء.
حي السلم والانفجار السکاني
يعيش حيّ السلّم الفقير علی وقع انفجار سکاني طوال عقود، ويقع هذا الحيّ عند أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت، علی مقربة من مدينة الشويفات أو أوّل مدخل جنوبيّ لمحافظة جبل لبنان.
وتُقدّر إحصاءات غير رسمية عدد سکّانه بما بين 150 ألفاً و250 ألفاً حرمهم موقع الحيّ الجغرافيّ من اعتراف السلطات المحلية (البلديات) بتبعيّته لها.
ساهم توسّع الأحياء حيث المساکن غير اللائقة، في امتدادها خارج النطاقات البلدية للمناطق التي کانت تتبع لها في الأصل، الأمر الذي أوجد مشاکل عدّة في البنی التحتية في تلک المناطق. وتمثّل منطقتا برج البراجنة وحيّ السلّم، أو “الصين الشعبية” بحسب ما يُطلِق عليها سکّانها، مثالاً صريحاً علی ذلک.
يُذکر أنّ شکاوی المواطنين تتجدّد مع بدء کلّ موسم شتاء، إذ تتقاذف البلديات المحيطة مسؤولية تأهيل البنی التحتية فيها للحيلولة دون غرق الشوارع في مياه الأمطار.
مشروع “ضاحيتي”
لم تسمح قيادات “حزب الله” بالحملة ضد الحي الفقير فحسب، بل طالبت بها فعلاً. بحسب مراجع لبنانية، فإزالة المحال بالجرافات في حي السلم تندرج ضمن خطة أکبر تحمل اسم “ضاحيتي”، أُطلقت في سبتمبر الماضي. وتقوم الخطة علی جهود تبذلها البلديات الثلاث المسؤولة عن الضاحية لتجميلها وجعلها مکاناً أکثر راحة للسکان.
وتشمل هذه المساعي إزالة شبکة فوضوية من المنشآت غير القانونية التي تسبب ازدحاماً مرورياً واکتظاظاً في بعض الأحياء.
لکن الهدف الحقيقي لـ “حزب الله” ليس الجمال أو الراحة، إذ يری عدد کبير من السکان أنّ الخطة بمثابة غطاء يستخدمه الحزب لمواجهة التحديات الرئيسية التي تواجهه في الضاحية، وهي: تفشي الجريمة الصغيرة، والمخدرات، والبغاء. وقد انتشرت هذه المشاکل منذ عام 2011 في ظل الحرب في سوريا.


 
هذه المشاهد صارت مألوفة لدی سکان الضاحية الجنوبية منذ انخراط حزب الله في النزاع السوري
يقول تقرير “معهد واشنطن”: “جرّ حزب الله المجتمع الشيعي إلی حروب مع إسرائيل عدة مرات في الماضي، ولکن هذه الصراعات کانت قصيرة نسبياً، وعادة ما تم مکافأة الشيعة المقيمين بمبالغ مالية وافرة وخدمات بعد انتهائها. غير أن الحرب السورية مختلفة. فهي مستمرة منذ سنوات، الأمر الذي کلف “حزب الله” صورته کجماعة “مقاومة” وقدرته علی توفير الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلی إزهاق حياة العديد من الشباب الذين لقوا حتفهم خلالها. وما أن استنزفت الأحداث التي جرت في سوريا المجاورة الحزب، لم يعد هذا الأخير قادراً علی تأمين الغطاء لعصابات المخدرات ومرتکبي الجرائم الصغيرة، والبناء غير القانوني في الوطن الأم. وقد ازدادت الاشتباکات في الشارع الشيعي في الضاحية کما تعالت الشکاوی، مما أظهر أن تأمين لقمة العيش والخدمات الأساسية أکثر أهمية بکثير بالنسبة للسکان المحليين من اضطلاع “حزب الله” بدور مهيب جديد في المنطقة. وقد بدأت العائلات الميسورة بمغادرة المنطقة، متجهة جنوباً أو إلی مناطق أخری في بيروت. ورداً علی ذلک، شعر “حزب الله” بأنه مجبر علی التحرک، فأطلق مشروع “ضاحيتي”.
تحديات أمام حزب الله
يشکل الغضب المتصاعد في معقل حزب الله، أصعب التحديات التي يواجهها الحزب في الوقت الراهن. ويعتقد الحزب علی ما يبدو أنه قادر علی التعامل مع العقوبات الدولية والضغوط السياسية التي يمارسها خصومه من دون تغيير مقاربته، ولکن الاستياء الداخلي ضمن المجتمع الشيعي قد يؤدي إلی انهيار قاعدة الدعم التي يحظی بها.

وفي الوقت الراهن، ربما سيستمر مشروع “ضاحيتي”، علی الرغم من أن “حزب الله” قد يبحث عن طرق أقل صرامةً لتطبيقه. غير أنه من المتوقع أن تؤدي أي تدابير من هذا النوع إلی مزيد من الاستياء والسخط، لا سيما في الأحياء الفقيرة، إذ ينتاب شيعة الضاحية الخوف من فقدان لقمة عيشهم. وأصبح الحديث عن فرص العمل، والقروض الصغيرة لفرص الاستثمار، والخدمات الأساسية يهيمن علی الخطاب الدائر في شوارع الضاحية. وقد أدرک الشيعة الفقراء أن هذه الإيديولوجيا و”الانتصارات الإلهية” لا توفر لهم الطعام علی الطاولة، لذلک فإن البديل الوحيد الذي يبحثون عنه اليوم هو بديل اقتصادي. وإذا لم يتمکن «حزب الله» من توفيره، فسوف يبحثون عنه في مکان آخر، بحسب تعبير الباحثة حنين غدار.
تحديات أخری
يعاني “حزب الله” من مشارکته في الحرب السورية من جوانب عدة لا يمکن إغفالها، وسبق أن حدّد موقع “ميدل ايست بريفينغ” (MEB) الأميرکي المختص بالأبحاث وتقييم المخاطر، تلک التحديات، وعلی رأسها التهديد الاسرائيلي والغربي.
والتحدي الأبرز يکمن في قدرة “حزب الله” علی الحفاظ علی القاعدة الشعبية له، إذ باتت الأصوات الشيعية المؤيدة له تستاء من کثرة التوابيت الوافدة إلی الضاحية الجنوبية والمحملة بجثث القتلی الذين يسقطون بشکل يومي في سوريا، وهو ما يولد نقمة وسخطًا متفاقمين.
 



أما التحدي الآخر بحسب موقع “بريفينغ” فهو ناتج عن تناقض داخلي صلب حزب الله، إذ يتقاسم النفوذ داخله ثلاثة فصائل أو تيارات، وهي: “الفصيل الإيراني، وفصيل نظام الأسد، والفصيل المعتدل”، وتزداد الفجوة بين الفصائل الثلاثة جراء التطورات الحاصلة.
ويعتقد الفصيل المعتدل أنّ الشيعة في لبنان کان يجب أن يحددوا دورهم الصارم في جنوب لبنان، وکان عليهم أن يتجنبوا أي تورط في المعرکة ضد السُنة في سوريا؛ لأنّ ذک سيهدد التعايش مع السُنة في لبنان، والترکيز فقط علی حماية مناطقهم داخل البلاد.
وهذا الرأي “المعتدل” تصادم مع تيار “الحرس الثوري” لأنه يعکس طريقة مختلفة للنظر في هدف “حزب الله”. فالشيعة اللبنانيون يرون الحزب کدرع ضد کل من إسرائيل وأي ظلم طائفي، في حين تنظر طهران إلی حزب باعتباره أداتها الاستراتيجية الخاصة في لعبة إقليمية کبيرة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى