أخبار إيران

عکاظ: حروب إيران الخفية منخفضة التکلفة


29/10/2017

لا تدخل اتهامات الرئيس الأمريکي دونالد ترمب وزعماء المنطقة أخيراً للنظام الإيراني برعاية الإرهاب ضمن ما قد يصنف بـ«حرب کلامية» بين هذه الأطراف، فالاتهامات تستند إلی کم هائل من الأعمال والممارسات التخريبية المنتهکة لسيادات الدول، يشنها النظام الإيراني خفية عبر شبکات معقدة من الجواسيس والميليشيات العسکرية والتنظيمات الإرهابية، بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني ووکالة الاستخبارات التابعة له.
وهذه الأعمال التخريبية التي يمارسها النظام الإيراني ليست خاضعة من جانبه لردود أفعال عارضة علی سياسات لا تحظی برضاه في الدول المستهدفة مما يجعلها عرضة للتغيير، بل أعمال ممنهجة ذات نسق أيديولوجي ديني وتنظيمي مستمر زمنياً بغير انقطاع منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 إلی الآن، ما يرقی بها إلی نوع من الحروب الخفية التي تستهدف زعزعة واستقرار الدول الأخری، لکن لماذا تخوض إيران هذه الحروب التي تعتمد فيها علی الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية وکل الأساليب التي لا يقرها النظام الدولي؟
أيديولوجيا عدائية
تکمن الإجابة في المستويات الأيديولوجية والتنظيمية (إدارة وتجنيداً وانتشاراً) والمالية التي تصدر عنها خطط وتدابير هذه الحروب، إذ أنها تنبع في أحد مستوياتها من أيديولوجيا إيران الدينية القائمة علی اتخاذ التشيع بصيغته الإمامية مذهباً رسمياً، وهي أيديولوجيا تری في المحيط المخالف لها مذهبياً وسطاً معادياً يجب استهدافه عبر دعاوی «تصدير الثورة»، کما تنبع في الشق السياسي لهذه الأيديولوجيا من العداء للدول التي ناهضت الثورة الإيرانية في أوج تشکلها واندلاعها وساندت شاه إيران عندئذ محمد رضا بهلوي، والتي اعتاد النظام الإيراني علی وصفها ضمن أدبياته بـ«دول الاستکبار العالمي»، معتبراً مناوئتها له «عدائاً للإسلام»، وفي صدارة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريکية، ومن ثَمّ تعد هذه الأيديولوجيا الدينية المحرک الذاتي للتوجهات العدائية للنظام ضد الدول الأخری، وتشير في هذا المستوی إلی أن إيران تشن هذه الحروب من منطلق عقائدي.
وتنظيمياً يخطط ويدير هذه الحروب الحرس الثوري الإيراني التابع لسلطات ما يسمی بـ«ولاية الفقيه» التي يجسدها حالياً المرشد الأعلی علي خامنئ الذي يمثل أعلی سلطة في البلاد، فالحرس الثوري هو الجهة المسؤولة عن إيجاد الشبکات التنفيذية لهذه الحروب من الناحية العملية، سواء بالنسبة للتشکيلات والخلايا والأفراد الملکفين بأهدافها، أو الوسائل التي تمکنهم من تحقيقها، أو الخطط التي يعملون عليها، أو نطاقات الانتشار التي يتوزعون عليها.
لکن خطورة اضطلاع الحرس الثوري بالمسؤولية التنظيمية لهذه الحروب، تتجاوز مجرد توفير النسق المادي واللوجيستي لها إلی ضمان المجال الذي يکفل استدامتها واستمراريتها، وبناء علی ذلک لا يتوقع لها أن تتوقف مادامت تصدر عن کيان تنظيمي منتج لها، کما لا يتوقع لها أن تنته بالنظر إلی أنها نشاط موازي لوجود النظام الإيراني نفسه.
نطاق التخريب
ويضم النطاق التخريبي لحروب إيران الخفية بحسب العمليات الإرهابية التي نفذتها وافتضح أمرها دول المنطقة: ففي السعودية تقف إيران خلف تفجير أبراج الخبر عام 1996 وتفجيرات الرياض عام 2003 من خلال ما يسمی بـ«حزب الله الحجاز»، وفي الکويت استهدفت إيران منشآت حکومية وسفارات عبر العديد من الخلايا الإرهابية منها ما عرف إعلامياً أخيراً بـ«خلية العبدلي» التي ضمت 26 إرهابياً أصدرت محکمة التمييز الکويتية أحکاماً بالإعدام والمؤبد علی بعضهم في يونيو (حزيران) الماضي.
ويشمل النطاق أيضاً الولايات المتحدة الأمريکية وهي من أوائل الدول التي استهدفتها إيران، إذ أقدمت في 23 أکتوبر (تشرين أول) 1983 علی تفجير مقر القوات البحرية الأمريکية «المارينز» في بيروت ما أسفر عن مقتل 249 جندياً أمريکياً وإصابة العشرات، في واقعة أليمة أحيت أمريکا ذکراها الـ34 الإثنين الماضي، ويضم النطاق کذلک الدول الأوروبية وبعض دول أمريکا اللاتينية کالأرجنتين، ودول أفريقية منها غينيا والسودان والنيجر، ودول آسيوية کأذربيجان وأفغانستان وباکستان والهند.
وفي هذا الصدد، کشفت دراسة أوروبية أجرتها اللجنة الدولية للبحث عن العدالة «آي إس جي» والجمعية الأوروبية لحرية العراق «إي آي إف إيه» ومقرهما بروکسل، أن «الدور التخريبي للحرس الثوري الإيراني شمل 14 دولة عربية وإسلامية في منطقة الشرق الأوسط وحدها خلال الثلاثين سنة الماضية»، ولفتت الدراسة الصادرة أوائل مارس (آذار) الماضي إلی أن وتيرة أنشطة «الثوري» الإرهابية تصاعدت منذ عام 2013، واتخذت مدی أبعد في التصعيد عقب إبرام إيران للاتفاق النووي مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة لألمانيا عام 2015.
الکيانات الشريرة
وعلی مستوی التجنيد والعتبئة، تعتمد إيران في حروبها الخفية علی منظومة واسعة من الکيانات المعلنة والسرية تضم ميليشيات عسکرية، وشبکات تجسس، وتنظيمات إرهابية، وشرکات تجارية، تنتشر عبر جغرافيا الشرق الأوسط والعالم، ففي العراق شکلت طهران العشرات من الميليشيات الشيعية المتطرفة منها «الحشد الشعبي» و«ومنظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» التي ارتکبت فظائع إنسانية بشعة بحق العراقيين، وفي لبنان ميليشيا «حزب الله»، وفي اليمن ميليشيا الحوثي، وفي الکويت ميليشيا «حزب الله الکويتي».
وتدعم إيران في البحرين ما يسمی بـ«تيار الوفاء الإسلامي» وذراعه الإرهابي تنظيم «سرايا الأشتر»، وأسست في فسلطين «حرکة الصابرين» التي ظهرت للعلن في أبريل 2014 وتتکون من شيعة فلسطينيين، وفي سورية جندت قرابة 70 ألف عنصر للحرب بالوکالة عن نظام بشار الأسد، وفي باکستان «لواء زينبيون»، وفي أفغانستان «لواء فاطميون» الذي يعد أهم مصدر للحرس الثوري الإيراني في تأمين المجندين للحرب في سورية.
العلاقات السرية
أما عن علاقة النظام الإيراني بالتنظيمات الإرهابية، فلقد أکد مدير وکالة الاستخبارات المرکزية الأمريکية «سي آي إيه» مايک بومبيو وجود علاقة بين النظام الإيراني وتنظيم القاعدة الإرهابي، وقال خلال کلمته في ندوة الأمن والدفاع التي نظمتها «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» في واشنطن في 19 أکتوبر الجاري: «إن علاقة تنظيم القاعدة بإيران علاقة سرية ومفتوحة، وهناک العديد من المعلومات غير المعلنة تؤکد وجود هذه العلاقة، ففي أوقات عديدة عمل الإيرانيون مع تنظيم القاعدة»، ولفت إلی أن أشکال التعاون بينهما لا تقتصر علی تسهيل النظام الإيراني لعبور عناصر القاعدة فحسب، بل إن هذه التسهيلات ذاتها تجري ضمن اتفاق سري يشمل تقديم مساعدات نشطة لأعضاء القاعدة.
وفيما يعتبر توضيحاً لأحد المصادر المهمة للمعلومات التي تمتلکها واشنطن والتي أشار إليها بومبيو، کشف توم دونيلون مستشار الأمن القومي السابق للرئيس باراک أوباما في خبر نشرته صحيفة «ويکليستاندرد» هذا الأسبوع، أن «کمية الوثائق التي حصلت عليها الاستخبارات الأمريکية في الغارة التي أطاحت بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن تکفي لملء مکتبة کلية صغيرة»، مبيناً أن «تلک الملفات التي لم تعلن بعد، والتي توثّق العلاقات بين تنظيم القاعدة وإيران، هي من أهم الوثائق المتفجرة التي لا تزال غير مکشوفة أمام الشعب الأمريکي».
اختلاق «داعش»
وحول تاريخ هذه العلاقات المشينة بين إيران و«القاعدة» وتنظيم «داعش» الإرهابي، أشار تقرير أصدره المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في مايو (آيار) الماضي إلی أن الحرس الثوري أنشأ منذ تسعينات القرن الماضي علاقات نشطة مع تنظيم القاعدة وتنظيمات متطرف أخری، وهذه العلاقات اتخذت أبعاداً غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة في العراق وسورية.
وکشف التقرير ذاته أن النظام الإيراني أمر الأسد بإطلاق سراح 1500 سجين إرهابي عام 2011، کما أوعز لنوري المالکي أيضاً بإطلاق سراح 1000 متطرف من سجون العراق، وشکل هؤلاء الإرهابيين النواة الأولی لتنظيم «داعش»، وذلک في محاولة من إيران لخلق عدو مناهض لها وللأسد؛ لتبرير الفظائع التي ترتکب في قمع المعارضين لهما في سورية والعراق.
ولا تقف دموية إيران عند ما سبق، إذ ثبت تورطها في 168 عملية اغتيال سياسي ضد شخصيات تصدت لمخططاتها التخريبية، منها اغتيال المدعي والمحقق الأرجنتيني ألبيرتو نيسمان الذي قتل بطلقة في الرأس في يناير 2015، قبل يوم واحد من الإدلاء بشهادته أمام الکونغرس الأرجنتيني حول ما قيل عن تغطية الحکومة الأرجنتينية لتفجيرات إيران الإرهابية للمرکز اليهودي عام 1994، وهو اغتيال کشفت أدلته صحيفة «وول ستريت جورنال»، ونقلته عنها لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأمريکية «سابراک» في تقريرها الذي أصدرته أوائل سبتمبر (أيلول) الماضي، ووثقت فيه عشرات الجرائم الإرهابية التي ارتکبتها إيران في أمريکا اللاتينية.
تکلفة زهيدة
وفي المستوی المالي، يعود اعتماد إيران علی الميليشيات والتنظيمات الإرهابية وبقية الأساليب الإجرامية في شن هذه الحروب الخفية ضد من تعتبرهم أعدائها؛ إلی انخفاض تکلفة هذه الحروب وعظم نتائجها في بسط النفوذ الإيراني، وإطلالة علی جغرافيا الشرق الأوسط کفيلة بشرح ذلک، فإيران تتمتع بنفوذ حقيقي في العراق وسورية ولبنان واليمن عبر ميليشياتها في الوقت الذي تتآمر فيه ضد دول عديدة أخری.
وبلغة الأرقام، ووفقاً لما أعلنه المتحدث باسم الحکومة الإيرانية محمد باقر نوبخت، فإن حصة الحرس الثوري الإيراني في الموازنة الإيرانية للعام الحالي لم تتجاوز 6.9 مليار دولار، وهي أعلی حصة يحصل عليها إلی الآن، إذ کانت العام الماضي 4.5 مليار دولار، و«الثوري» هو الجهة المنوطة بشن هذه الحروب.
ولم تذهب أعلی التقديرات بعيداً عن ضعف قيمة هذه الميزانيات تقريباً، فوفقاً لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنی، فإن الثمن الإجمالي لکافة الأنشطة التخريبية لإيران بما فيها دعم الأسد لا يتجاوز 10 مليارات دولار سنوياً (حفنة دولارات)، منها نحو ملياري دولار تمثل حجم الدعم الإيراني للميليشيات الطائفية في العراق وسورية بواقع 300 دولار شهرياً لحوالي 140 ألف عنصر إلی جانب 900 دولار شهرياً لکل مقاتل حامل للسلاح، وفي المحصلة فإن إجمالي المبلغ يعد تکلفة زهيدة للغاية مقارنة بعوائد إيران الاقتصادية وحجم ميزانيتها والمکاسب الاستراتيجية التي تجنيها من زعزعة استقرار الدول، کما أنه لا يکاد يذکر إذا قورن بالتکلفة الباهظة التي تتحملها هذه الدول في حماية نفسها من إرهاب إيران.

زر الذهاب إلى الأعلى