العالم العربيمقالات

ضربة الشعيرات: مقدمة لإنهاء المعاناة؟

 

الحياة
19/4/2017
 
بقلم: عبد الباسط سيدا


«ما يحدث في سورية حرب وليست ثورة»، عبارة قالتها زميلة يسارية بوليفية في تعليق لها علی کلام زميلة أخری سورية.

فوجئت بالتعليق غير المتوقع، بناء علی مناقشاتنا السابقة، وآثرت الاستماع صامتاً إلی تشعبات الحديث، الذي سرعان ما انتقل لتناول موضوع آخر لإدراک الطرفين مدی حساسية ما قيل، وتحسباً لمآلات غير محسوبة.
قابلت الزميلة البوليفية ذاتها في مناسبة أخری وبينت لها أن موقفها من الوضع في سورية کان غريباً غير متوقع بالنسبة إلي. وجدتها ما زالت مصرّة علی موقفها، لکنني لاحظت في الوقت عينه مسحة مختلطة من التشنج والبرود علی وجهها، وهي سمة يتشارک فيها العقائديون عادة.
من الحجج الضعيفة التي اتکأت عليها لدعم موقفها: بشار الأسد منتخب ديموقراطياً، وکل المتطرفين الإسلاميين من جميع أرجاء العالم اجتمعوا لمقاتلة النظام بدعم أميرکي، وغير ذلک من الأقاويل المعلّبة، الفاقدة لأية صلاحية تسويقية.

ويبدو أنها شعرت بتماديها في الدفاع عن حاکم مسؤول عن قتل أکثر من نصف مليون إنسان، ومسؤول عن إعاقة أکثر من نصف مليون، وتشريد أکثر من نصف الشعب وتدمير البلد، فقالت: لست ضد خروج الناس للمطالبة بحقوقهم، ولکن ما يجري في سورية ليس کذلک.
نظرت فيها ملياً، وأنا أفکر في مدی قدرة الايديولوجيا علی تحويل الکائن الإنساني إلی مجرد آلة من دون أية حواس ومشاعر ومبادئ.

قلت لها: ما رأيک بخروج أکثر من ثمانية ملايين مدني معظمهم من الطلاب والمثقفين يمثلون کل فئات ومکوّنات الشعب، في يوم واحد، يطالبون سلمياً برحيل بشار؟ وما موقفک من جلب النظام لقوات «حزب الله» اللبناني- الإيراني، والفصائل العراقية المذهبية، والحرس الثوري الإيراني لمشارکته ومساعدته في قتل السوريين وتدمير البلد؟ وکيف تسوغين إقدام النظام بقيادة بشار علی قصف المدن منذ أکثر من خمسة أعوام بالطائرات وبکل أنواع الأسلحة، بما فيها الکيماوية؟ أما الانتخابات الديموقراطية التي تتحدثين عنها فهي انتخابات 99،99 التي کانت تعرف بها الأنظمة الشيوعية السابقة، وهي نسخة عن تلک «الانتخابات الديموقراطية» التي تمت عندکم أخيراً، وأسفرت عن انتخاب اورتيغا رئيساً لنيکاراغوا وزوجته نائباً له.

ولم يکن أمامها من مجال سوی أن تنظر في الأرض، وتقول: لا أدري. حينئذٍ أدرکت أن السطحية، والمواقف المسبقة، والعماء الإنساني، ومناصرة الديکتاتوريات بناء علی الشعارات، من الخصائص المشترکة بين أتباع اليسار الإيديولوجي عموماً، وليست مقتصرة علی «يساريينا» المحليين وحدهم.

من بين ما يسجّل للثورة السورية علی رغم کل شيء، أنها أسقطت الأقنعة عن وجوه الجميع، فبات نظام العصابة، والقوموي المدعي، والعلماني المزيف، والمقاوم المذهبي، والإرهابي الجهادي، بات هؤلاء جميعهم في الخنادق المتکاملة المناوئة لتطلعات السوريين، يستمدون الدعم من القيصر الأحمر والولي الفقيه.

وعلی رغم کل القتل والتهجير والتجويع والتدمير علی مدی ستة أعوام، وتقاعس العالم أجمع عن نجدة السوريين کما ينبغي، تمکّن السوريون بفضل صبرهم وتحملهم وثباتهم، من إفهام الجميع بأن إعادتهم مجدداً إلی حظيرة الطاعة لبيت الأسد وشرکائهم باتت أمراً يتجاوز المستحيلات السبعة.

وقد عملت روسيا في هذا الاتجاه، اتجاه إعادة تأهيل النظام، باستمرار، لا سيما في مرحلة ما بعد حلب، وحاولت أن تظهر في هيئة المتحکّم بکل خيوط اللوحة السورية، ودعت إلی اجتماعات آستانة، وحاولت أن تفرض أجندتها في جنيف، وکانت في سباق مع الزمن، لمعرفتها الکاملة بأن الموقف الأميرکي في نهاية المطاف هو الحاسم.

وقد بلغ استخفاف روسيا بالسوريين أنها قدمت للنظام کل أنواع الدعم العسکري والسياسي، وعملت جاهدة علی «فبرکة» المعارضين وتسويقهم، وهي تسعی الی تحديد الوفد المفاوض وفق معاييرها، وبطريقة تذکّرنا بمسرح العرائس الدمشقي. بل بلغ الأمر بالروس حد وضع الدستور للسوريين قبل المفاوضات، وذلک في لحظة درامية إبهارية، کان الغرض منها الإيحاء بأن المقادير والمصائر جميعها غدت في حوزتهم.
وجاءت الضربة الکيماوية علی خان شيخون من جانب النظام، وبالتفاهم مع الروس والإيرانيين، وفي أجواء التصريحات الأميرکية اللافتة بخصوص مصير بشار، لتکون في حسابات معسکر النظام أداة لبث الرعب الشمولي، تمهيداً لرسم حدود ممالک الرغبة والعقد الماضوية.
وخرج الروس علی الملأ بحکاية کانت أکثر «معقولية» من حکاية بثينة شعبان غداة الضربة الکيماوية علی الغوطة. لکن القاسم المشترک بين الحکايتين هو افتقارهما الی أية صدقية.

وتوجهت الأنظار جميعها نحو واشنطن التي خدعت تصريحاتها قبل خان شيخون النظام ورعاته. وکانت الضربة الأميرکية التي کان أوباما لوّح بها کثيراً قبل أن يتنصّل من خطه الأحمر، مکتفياً بصفقة کان هو أکثر الناس اطلاعاً علی جوانبها الرخوة، ومع ذلک اکتفی بالبعد الدعائي، وترک الجاني طليق اليد والقدرات.
ومن محاسن هذه الضربة الأميرکية المحدودة أنها أکدت رسمياً للمجتمع الدولي المشلول مسؤولية «نظام» بشار عن استخدام الکيماوي. کما أرغمت الروس علی إعادة النظر في حکايتهم التفسيرية – التضليلية حول ما جری في خان شيخون، وسحب قواتهم في الوقت عينه من المنطقة التي کانت هدفاً للضربة الأميرکية، وذلک في اعتراف ضمني بأن القوة الأعظم هي التي تقرر.
لقد کانت روسيا تريد إرغام المعارضة السورية علی القبول بمنطقها القائم علی أن ما بعد حلب ليس کما قبلها. والآن تبيّن للجميع، ومعهم روسيا بطبيعة الحال، أن ما بعد ضربة مطار الشعيرات ليس کما قبلها.

الضربة الأميرکية علی محدوديتها، وعلی رغم التساؤلات الکثيرة حول مراميها، وحدودها وجديتها، وإمکانات استمراريتها، تشکّل رسالة قوية للجميع، ولروسيا بخاصة، تؤکد أن مرحلة التفرد الروسي بالملف السوري انتهت. هذا بصرف النظر عما إذا کان ذلک التفرّد قد تم ضمن سلسلة تفاهمات أميرکية- روسية سابقة أو لا.

أميرکا موجودة بقوة في الجغرافيا السورية براً وجواً. وهي الفاعل الأکثر تأثيراً وقوة اقليمياً ودولياً. وعلی وقع خطاها ينظم الأوروبيون سيرهم، ويعبر حلفاؤها الإقليميون بمناسبة ومن دونها عن رغبتهم في التعاون والإسهام، وتجاوز مرارات وخيبات المرحلة الأوبامية.
أما خصوم أميرکا، فيدرکون تماماً أن قدرتهم علی المجابهة محدودة إذا بلغت الأمور مرحلة الجد.

زر الذهاب إلى الأعلى