العالم العربيمقالات

موقع سورية في الصفقة الممکنة بين موسکو وواشنطن

 


الحياة
14/4/2017
 

بقلم: راغدة درغام

 

بدأ حديث المقايضات في إطار صفقة أميرکية – روسية بشأن سورية إنما ليس في إطار الصفقة الکبری بين البلدين بما يشمل أوکرانيا ومصير العقوبات المفروضة علی روسيا والتي ما زالت هدفاً بعيد المنال وصعب التحقيق. موقع إيران داخل سورية جزء من الحديث الجاري بلغة الممرات و «المطارات».
«حزب الله» لن يتواجد في الجولان تلبية لمطالب إسرائيل الاستراتيجية، إنما موقف إسرائيل من فکرة الممر الإيراني إلی لبنان مرفق بتسهيلات مطار له هو اللافت، إن أتی بالموافقة العلنية أو الخفية. زيارة وزير الخارجية الأميرکي ريکس تيلرسون إلی موسکو واجتماعه بنظيره الروسي سيرغي لافروف لحوالی أربع ساعات تبعه استقبال الرئيس فلاديمير بوتين إياه دليل علی بدء حديث جدي بين إدارة ترامب وحکومة بوتين حول العلاقة الثنائية ومواقع الصفقة الممکنة، ولقد وقع الخيار علی سورية. مشروع القرار الأميرکي- البريطاني- الفرنسي في مجلس الأمن الذي دان استخدام الأسلحة الکيماوية في إدلب وطالب بفتح المطارات للتحقيق لاقی الفيتو الروسية الثامنة بعدما طلب المندوب الروسي تأجيل التصويت نظراً لتفاهمات بين تيلرسون ولافروف. لکن مؤشرات التصعيد في نيويورک عبر معارک الفيتو ليست بأهمية المقايضات التي بدأت بالتوازي في موسکو في اليوم ذاته.
السفيرة الأميرکية نيکي هايلي أطلقت المواقف الأميرکية الافتتاحية للمفاوضات مع روسيا من قاعة مجلس الأمن الذي تترأسه للشهر الجاري، مشددة علی «الشراکة» التي تريدها الولايات المتحدة مع روسيا في سورية. اتفاق وزيري الخارجية علی محطات الشراکة والتفاهمات کان له عنوان لافت عند التأکيد علی وحدة أراضي سورية، إلی جانب التأکيد علی الشراکة في ضرب «داعش» کأولوية، فسورية الموحدة تعني رفض تقسيمها الذي يتم ميدانياً بما يخدم «الهلال» الذي هو جزء من المشروع الإيراني في سورية، ولذلک يدور الحديث عن ممر ومطار، تعويضاً لطهران التي لا تريد موسکو التخلي عنها إثباتاً لوفائها لحلفائها في التکتيک وفي الاستراتيجية. فموسکو تريد الصفقة مع واشنطن إنما ليس بأي ثمن. کلاهما يقر بأن الرئيس السوري بشار الأسد راحل عاجلاً أم آجلاً، فهو بات الآن «العقدة» المرحلية وليس العقدة المصيرية لسورية. رسالة واشنطن الأساسية إلی موسکو هي أن الفرصة مواتية لتأمينها باستراتيجية خروج من التورط في سورية علی أساس صيانة مصالح أساسية لها، وإلا أمامها أن ترث سورية مکسَّرة بکل ما فيها من «دواعش»، ومعارضة عسکرية مُمکَّنة أميرکياً، وعزم أميرکي علی الاستمتاع بتورط روسيا وإيران معاً في المستنقع. رسالة موسکو إلی واشنطن فحواها أنها جاهزة للمقايضة شرط ألا ترتبط الصفقة بأي انطباع يقلّل من مکانة روسيا کدولة استعادت العظمة عبر البوابة السورية، وشرط إقرار الولايات المتحدة بمصالح روسيا الاستراتيجية. مساحة التقاطع بين الرغبتين تبدو اليوم واسعة في أعقاب العملية الأميرکية العسکرية في سورية التي فتحت باب المفاوضات الجدية.

صانعو القرار الأميرکي نحو روسيا في سورية داخل الإدارة الأميرکية -وخارجها- هم عسکريون يتقنون لغة الاستراتيجية الجغرافية- السياسية، وهم من کبار القيادات العسکرية الأميرکية وأبرزها. سفيرة الديبلوماسية الأميرکية، نيکي هايلي، نالت تقدير وإعجاب هذه المجموعة الفاعلة في صنع القرار، وباتت المعبِّر الأول عن السياسة العسکرية- السياسية الصادرة عن إدارة ترامب. الفکرة الأساسية وراء الرد العسکري السريع علی استخدام الأسلحة الکيماوية في خان شيخون هي رسم الخطوط الحمر في الرمال نحو روسيا وإيران وليس فقط نحو سورية.
العنوان الأساسي هو إنهاء النزيف في سورية وإبلاغ الکرملين أن إدارة ترامب تعي أن السياسة الروسية والإيرانية قائمة علی «الحل العسکري» في سورية وليس «الحل السياسي»، ولذلک قررت أن فرض ظروف وشروط عسکرية أميرکية بات العنصر الجديد في المعادلة، في انقلاب علی ظروف النأي بالنفس التي تبنتها إدارة أوباما في سورية.

هناک حوالی ألف عنصر عسکري أميرکي في ساحة الحرب السورية، إنما هناک قدرات استطلاعية ضخمة لها قيمتها في ساحة الحرب العصرية. الخطط العسکرية جاهزة، ولذلک تمکن الرئيس دونالد ترامب من اتخاذ قراره بفورية إنما ليس باعتباطية، فلقد أحاط نفسه بقيادات عسکرية- سياسية وبات براغماتياً وجاهزاً لممارسة دوره وصلاحياته کرئيس الولايات المتحدة بناءً علی النصيحة المهنية.
هؤلاء الفاعلون في صنع السياسة الأميرکية الخارجية يريدون حواراً استراتيجياً مع روسيا، وهم ينظرون إلی تحديد مستقبل العلاقة الأميرکية- الروسية من منظور التفوق العسکري الأميرکي القاطع في المعادلة العسکرية بين الدولتين. بکلام آخر، رهانهم هو أن روسيا لن تجرؤ علی مواجهة الولايات المتحدة عسکرياً، وأن کل قراراتها في سورية ستأخذ المعادلة العسکرية في الاعتبار. هذه أداة تفاوضية، في نظرهم، وهم جاهزون «لإبلاغ» العزم العسکري تکراراً، إذا کانت هناک حاجة لمثل هذا الإبلاغ، إنما ما يريدونه هو الحوار الاستراتيجي والتفاهمات ضمن فن صنع الصفقة.

إدارة ترامب مستفيدة من انطباع التصعيد مع روسيا لأنه يضع الرأي العام الأميرکي خارج حلقة الشکوک والتهم بعلاقة مشبوهة بين أرکان حملة ترامب الانتخابية وبين الحلقة الفاعلة في الکرملين بقيادة فلاديمير بوتين. الخوف من التصعيد مع روسيا قد يساهم أيضاً في تقبّل الصفقة الأميرکية- الروسية، فالمسألة ليست مجرد تغيير الحديث الداخلي وإنما هي تجهيز المزاج الداخلي لتقبل التفاهمات الأميرکية- الروسية.
عناوين إدارة ترامب في المباحثات مع الکرملين، بحسب مطلعين عن کثب علی الحديث الأميرکي- الروسي الجديد هي: فرض الحدود علی النفوذ الإيراني في سورية، إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش»، وعدم إلحاق أي أذی بالمصالح الإسرائيلية. الرسالة الأميرکية الأساسية إلی روسيا -يقول هؤلاء- هي: احذري، إن الوعاء الذي تکسرينه سيصبح ملکک. وهذا، في رأي إدارة ترامب أداة تأثير فاعلة لإيقاظ الکرملين إلی مغبة رفض الشراکة المعروضة.

القصد من مقولة امتلاک الوعاء المکسور هو أن سورية، في حال فشل التفاهمات، ستکون ساحة حرب أهلية، وفي حال «صوملة» لعشر سنوات أو أکثر، وسيکون في وسع الإرهابيين الذين هاجروا إلی سورية العودة إلی بلادهم ومحيطهم للانتقام فيما روسيا تغرق في مستنقع سورية، والکلام هنا عن المقاتلين الشيشان ومن الجمهوريات الإسلامية الخمس المحيطة بروسيا. «أفغنة» سورية أو «صوملتها» ليس في مصلحة روسيا، وفق التقويم الأميرکي، ولذلک هي تحتاج لأن تعيد النظر في مواقفها.

تمسک موسکو ببشار الأسد تکتيکي ومؤقت وقابل للمقايضات، بحسب التفکير الأميرکي، لا سيما أن البحث متقدم في عملية صياغة البديل من الأسد المقبول أميرکياً وروسياً. وبما أن واشنطن ليست في عجلة کبری لترحيل الأسد، وهي جاهزة للقبول باستمرار أرکان النظام في دمشق من دون عائلة الأسد، فآفاق التوافق متوافرة، فمصير الأسد لم يعد العقدة الرئيسية في حال التوصل إلی التفاهمات الاستراتيجية الضامنة للمصالح الروسية والأميرکية في سورية. والترکيز هنا هو علی شرط التوصل إلی التفاهمات والصفقة.

مصير «حزب الله» ومصير الميليشيات التي تديرها طهران في سورية هو العقدة الأکبر. موسکو ليست جاهزة للتخلي عن طهران، وواشنطن تفهم صعوبة ذلک. لهذا، يدور الحديث حول معالجات واقعية لعقدة إيران في سورية. «حزب الله» جاهز للانسحاب من سورية حالما ترتئي طهران أن الوقت حان، وطهران لن تفعل ما لم تضمن ممراً لها إلی «حزب الله» في لبنان. موسکو جاهزة للإصرار علی طهران أن تتأقلم مع واقع التفاهمات -إذا حصلت- وهي تقع تحت ضغوط أميرکية مصرّة علی تقليص نفوذ إيران في سورية، في حال أرادت الصفقة مع واشنطن.
روسيا قادرة علی احتواء الطموحات الإيرانية والمشروع الإيراني في سورية ولديها أکثر من أداة، أبرزها، «تعرية» إيران عسکرياً في سورية إذا سحبت عنها الغطاء الحامي لها في علاقتهما الميدانية الاستراتيجية. إيران تعي تماماً أنها غير قادرة علی الاحتفاظ بالأسد بمفردها ولا علی فرض مشروعها في سورية ما لم تسمح لها روسيا بذلک. إدارة ترامب تستخدم تلک المعادلة لمطالبة الکرملين بحسم أمره من إيران. ولهذا يبرز الکلام عن إمکان التوافق الأميرکي- الروسي علی ممر ومطار لإيران يلبي وصولها إلی «حزب الله» في لبنان.

ما لا تريده موسکو هو الإيحاء بموافقتها علی تغيير النظام في دمشق، ليس لأنها متمسکة ببقاء الأسد وإنما لأنها تخشی «مبدأ» تغيير أي نظام، في سورية أو في أوکرانيا أو غيرهما، لأنها في الواقع تخشی أن يکون هذا المبدأ من نصيبها بقرار أميرکي. موسکو لن تتخلی عن إنجازاتها في سورية في غياب ضمانات أميرکية تقر بمصالحها الحيوية في سورية، من القواعد العسکرية إلی حصتها في إعادة الإعمار، إلی بقائها قوة کبری في الشرق الأوسط تؤخذ في الاعتبار.

وإلی حين وضوح تام لإقرار إدارة ترامب بهذه الرکائز الأساسية للمصالح الروسية، لن تتراجع موسکو إطلاقاً عن تمسکها بالأسد ولا عن تحالفها مع إيران، فالحديث عن الصفقة ما زال في بدايته والطريق إلی إتمام الصفقة السورية وعرة ومثقلة بمطبات المفاجآت علی الساحة السورية کما في ساحة العلاقة الروسية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) وکذلک في موازين التطورات في أوکرانيا حيث تقبع تلک الصفقة الکبری المستبعدة حالياً.
الولايات المتحدة لن تتدخل عسکرياً بتورط مباشر في الحرب السورية أو في أوکرانيا، لکن إدارة ترامب لن تنأی بنفسها کما فعلت إدارة أوباما، فهي متأهبة لتوجيه ضربة عسکرية تلو الأخری إذا لزم الأمر، وهي واثقة من أن موسکو لن تجرؤ علی مواجهتها عسکرياً. إدارة ترامب جاهزة لصفقة مع روسيا لکنها لا تخشی رفض روسيا الصفقة، لأن الرفض سيؤذي روسيا أکثر ويجرها إلی مستنقع خطير في سورية.
فإذا کانت سورية موقع استعادة فلاديمير بوتين کرامة روسيا القومية ومکانتها قوةً عالمية في زمن باراک أوباما، فإن دونالد ترامب عازم علی تنفيذ تعهده بجعل أميرکا دولة عظمی مجدداً، لذلک يخاطب روسيا بلهجة فوقية من البوابة السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى