مقالات

مؤشرات إخراج إيران من اللعبة الإقليمية

 

الوطن السعودية
29/12/2016


 
بقلم:محمد السلمي

 

إيران وقياداتها السياسية والفکرية والأيديولوجية لا تثق بموسکو مطلقا، لکنها تستفيد منها خلال الأزمات، بسبب تقاطع المصالح بين البلدين

بعد عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي والابتعاد عن التأثير في الساحة السياسية الدولية وموازين القوی العالمية، تنهض روسيا مجددا لتعود لاعبا رئيسيا ومؤثرا في لعبة الصراعات السياسية، فمنذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي کانت الولايات المتحدة الأميرکية تشکل القطب الأوحد في العالم، إلا أن موسکو نفضت عنها غبار تلک السنين لتصبح رقما مُهمّاً في العالم، مدفوعة بطموح کبير للرئيس الحالي فلاديمير بوتين الذي يتوق کثيرا إلی بناء روسيا حديثة وقوية لا ترضی بالعيش علی الهامش أو الاکتفاء بدور المتفرج في ظل المتغيرات التي تعصف بالعالم علی المستويين السياسي والاقتصادي.
وإذا ما نظرنا إلی تحالفات روسيا -مع التحفظ علی الوصف هنا- في منطقة الشرق الأوسط لوجدنا أن إيران من أکثر الدول الإقليمية قربا منها ومن رؤاها، علی أقل تقدير خلال الوقت الراهن، بخاصة عند الحديث عن موقف الدولتين من الأزمة السورية والتعاون بينهما، سواء في دعم النظام السوري أو استهداف الشعب السوري ومحاولة إخماد ثورته.
وإذا ما تجاوزنا شهر العسل الراهن بين الدولتين ظهر أمامنا سؤال مهمّ: هل تثق طهران بموسکو؟
من النادر أن تجد تقريرا أو تحليلا يتطرق إلی هذا الشأن، وفي هذا الإطار تحديدا. معرفتي المتواضعة بالنمط التفکيري للعقلية الإيرانية تجعلني أجزم بالقول إن إيران وقيادتها السياسية والفکرية والأيديولوجية لا تثق بموسکو مطلقا، لکنها تستفيد منها خلال الأزمات، لأسباب کثيرة، منها تقاطع المصالح بين البلدين. والتاريخ حاضر دائما في المخيِّلة الإيرانية علی المستويين الرسمي والشعبي، فتاريخيا يُعَدّ الحضور الروسي علی الساحة الإيرانية سلبيا للغاية، فروسيا هزمت إيران في حربين کبيرتين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، واقتطعت أجزاء من الأراضي الإيرانية، کما لعبت دور الهيمنة الاقتصادية علی إيران في بدايات القرن العشرين، واقتسمت النفوذ مع البريطانيين علی الأراضي الإيرانية خلال حقبة الثورة الدستورية (1905-1911). أما في الوقت الراهن فبين البلدين علاقة سياسية واقتصادية جيدة، لکن ذلک لم يمسح التاريخ بکل آلامه وجراحه، کما أنه لم يغيّر المزاج الإيراني العام تجاه روسيا.

الأهم من ذلک أن روسيا تدرک خطر الانفتاح الاقتصادي الغربي علی إيران، بخاصة أن الشرکات الأميرکية والألمانية والفرنسية جاهزة للانطلاق نحو السوق الإيرانية المربحة متی ضمن التزام إيران بالاتفاق النووي. وبعودة العلاقات بين طهران والعواصم الغربية إلی طبيعتها، ستصبح إيران منافسا قويا لروسيا في مسألة تصدير الغاز إلی أوروبا، وهي مرشحة لذلک بقوة بحکم موقعها الجغرافي وحجم إنتاجها من الغاز الطبيعي، الأمر الذي لا ترغب موسکو في التفکير فيه أساسا، فکيف إن برزت مؤشرات تَحَقُّق ذلک علی أرض الواقع؟! کما أن الغاز الإيراني يُعَدّ خيارا جيدا من الناحيتين الاقتصادية والإستراتيجية للدول الأوروبية من حيث التکلفة المنخفضة والموقع الجغرافي لإيران، والأهم أن استبدال الغاز الإيراني بالروسي يمنح الجانب الأوروبي فرصة الخلاص من هذا الکارْت السياسي والاقتصادي الذي تلوح به روسيا في وجه الأوروبيين عند بروز أي خلافات بين الجانبين. لهذا فمن الطبيعي أن نتساءل: هل ستقبل روسيا بأن تکون طرفا في الإضرار بمصالحها وإستراتيجياتها؟

الواقع أن موسکو في ظل اصطفافها مع طهران في الوقت الراهن علی الجانب المقابل لواشنطن وبعض العواصم الأوروبية، لا ترغب في إفساد المفاوضات، وأن تظهر في صورة المتسبب في عدم الوصول إلی اتفاق نهائي مع إيران، إلا أنها لن تقبل بأي اتفاق ضد مصالحها، سواء في شرق أوروبا أو في منطقة الشرق الأوسط.

من المعلوم أن اللعبة السياسية قائمة في المقام الأول علی مبدأ حساب المصالح والمهددات بکل فروعها الإستراتيجية والمرحلية، السياسية والاقتصادية والعسکرية، ومن ثم فإن أي تحرک روسي أو إيراني قادم سيسبقه دراسة دقيقة لحجم المکاسب والخسائر، کما ستکون إيران في موقف أکثر حرجا بين أتباعها والمغرَمين بها من جانب، وحلفائها وداعميها في الماضي القريب من جانب آخر، فالانفتاح الاقتصادي أمر يسيل له لعاب الساسة الإيرانيين کما هو حال الشرکات الأجنبية، لکنه قد يفقدها الجانب الروسي الذي يعلم -ربما أکثر من الإيرانيين أنفسهم- أسرار المحطات النووية والقوة العسکرية الإيرانية، وهو صديق غير مأمون الجانب من وجهة النظر الإيرانية. هنا تکمن معادلة الحسابات الإيرانية وخطورة اتخاذ قرارات السنوات القليلة القادمة علی أقل تقدير.

لکن ماذا لو نظرنا إلی المعادلات السياسية الأخری بعيدا عن ثنائية موسکو وطهران؟ مثلا عند النظر إلی التنسيق الروسي الإيراني حول الأوضاع في سورية ودعمهما غير المحدود لنظام بشار الأسد، نری أن هذا التنسيق تکتيکي أکثر منه إستراتيجيا، ولقد برزت الخلافات بين الجانبين عند السيطرة علی مدينة حلب ومحاولة طهران عرقلة أي توافق بين أنقرة وموسکو، لذلک حاولت الميليشيات الإيرانية الحيلولة دون إجلاء المدنيين من المدينة المنکوبة، مما قاد روسيا إلی التهديد بقصف أي جهة تفشل الاتفاق حول حلب.

هذه الحالة تجعلنا نستشرف مستقبل التنسيق الروسي – الإيراني في حالة دخول أطراف خارجية علی خط المفاوضات الجادة حول مستقبل القضية السورية، فالأهداف الإستراتيجية الروسية في سورية مختلفة تماما عن نظيرتها الإيرانية في الغالب. ومن المؤکد أن من أسباب التنسيق الروسي – الإيراني الحالي روح المناوشة، والتوتر أحيانا، في العلاقات الروسية – الأميرکية، ومتی أخذت العلاقة بين الجانبين مسارا تقاربيا فقد تصبح إيران خارج اللعبة تماما وتتحول إلی دولة هامشية.

ويری کثيرون أن العلاقات الروسية – الأميرکية قد تتحسن خلال فترة رئاسة دونالد ترمب، وتوجد مؤشرات کثيرة لذلک، لعل آخرها اختياره شخصية مقربة من الرئيس الروسي بوتين وزيرا للخارجية، إلی جانب عدة تصريحات أطلقها ترمب تحدث فيها عن مستقبل العلاقات بين موسکو وواشنطن. أما العلاقة بين روسيا والدول العربية فإنها في الوقت الراهن تمر بحالة برود طاغية، ومن ثم فليس لها أي انعکاسات سلبية علی طبيعة العلاقة بين موسکو وطهران، ولا أری أي بوادر تغير علی المدی القريب، ومع الأسف الشديد لا تزال الدول العربية أيضا -إلا ما ندر- خارج اللعبة الإقليمية، وأرجو ألا يستمر هذا طويلا.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى