تقارير

لماذا التدمير في مصفاة بيجي؟

 


الجزيرة.نت
8/2/2016


تفکيک ونقل لإيران


في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي لم تکن بيجي سوی مدينة زراعية صغيرة قليلة النفوس علی الطريق بين بغداد والموصل.
لکن إنشاء مصفاة بيجي بخطوطها الإنتاجية الثلاثة بطاقة 290 ألف برميل يوميا , ومصفاتين  لزيوت التشحيم بطاقة ربع مليون طن سنويا، إضافة إلی واحدة من أکبر محطات توليد الکهرباء في العراق ومعمل متکامل لتصنيع الزيوت النباتية، قد جعل من بيجي مدينة صناعية بحق، واختيرت لتکون موقعا إنتاجيا مهما للشرکة العربية لکيميائيات المنظفات لإنتاج خمسين ألف طن في السنة من المادة الأساس لمساحيق الغسيل.
وقد رافق کل ذلک نهضة عمرانية کبيرة ببناء آلاف المنازل والشقق والمدارس والجوامع والأسواق والحدائق والمستوصفات لإسکان العدد الکبير من المهندسين والفنيين والإداريين والعمال الذين جاؤوا من مختلف أنحاء العراق دون استثناء.
 بيجي ساحة معرکة
من عاش تلک الفترة وساهم فيها -کما کاتب هذه السطور- ومن قضی العمر في إدارة وتشغيل تلک المنشآت يصعب عليه تصور ما حدث لبيجي منذ احتلالها من قبل تنظيم الدولة أواسط 2014 حتی الوقت الحاضر، وسيطرة قوات الحکومة ومليشياتها علی المدينة ومنشآتها في أکتوبر/تشرين الأول 2015.
فقد کانت کل تلک المنشآت خاصة مصفاة بيجي ساحة معرکة کر وفر، وما تبع ذلک من أذی کبير في المکائن والمعدات والخزانات، وفي تشريد آلاف من المنتسبين وعوائلهم.
وفي الحرب، لا تفاجئ الخسائر المادية والبشرية الکبيرة أحدا علی شدة وقعها، فهذه طبيعة الحرب، لکن أن يستمر النزف والدمار بعد المعرکة فهو أمر لا يمکن تصوره أو قبوله مطلقا. وهذا ما حدث ويحدث خصيصا في مصفاة بيجي، حيث أوفدت وزارة النفط فريقا فنيا للکشف علی المصفاة بعد أسبوعين من استعادتها. وبين تقرير الوفد أن أضرارا کبيرة قد حدثت لکن بالإمکان الشروع بإعمار أحد الخطوط الإنتاجية (وهو صلاح الدين 1) الذي بدت أضراره أقل من غيره.
ولم يبين التقرير فقدان أي من المواد الاحتياطية ولا المعدات الثقيلة المتحرکة التي ستکون ضرورية في أي إعمار قادم. وفي نفس الوقت قامت إدارة المصفاة بإعداد تقرير مشابه وصبت اقتراحاتها في نفس الاتجاه.
لکن فريقا ثانيا حاول الدخول إلی المصفاة  في ديسمبر/کانون الأول ربما لإعداد تقرير أکثر تفصيلا، وکان يرافق الفريق ضباط من الجيش وممثلون عن الحکومة المحلية لمحافظة صلاح الدين ومسؤول من أمن الوزارة. إلا أنهم منعوا من الدخول من قبل المليشيات المسيطرة علی المصفاة، التي أطلقت النار في الهواء لإخافتهم بعد أخذ ورَد.
وقد وردت أنباء من منتسبي المصفاة الذين لا يزالون يعيشون بالقرب من المنطقة عن عمليات نهب کبيرة ومنظمة لمحتويات المخازن والمعدات الثقيلة المتحرکة، کالرافعات والسيارات الناقلة ومولدات الکهرباء وغيرها. کما سرت إشاعة عن خطة لتفکيک ونقل مولدات ديزل بطاقة 84 ميغاواطا کانت قد نصبت قبيل الأحداث. وأبدی المنتسبون مخاوف من أن يمتد النهب والعبث إلی معدات المصفاة الثابتة وإلی أجهزة السيطرة، ومن أن تکون الحکومة عاجزة عن وقف المليشيات عند حدها.
وذکرت صحيفة القدس العربي يوم 19 أکتوبر/تشرين الأول الماضي علی لسان مسؤول أمني بأن النهب کان قد بدأ حتی قبل سيطرة قوات الحکومة الکاملة علی المصفاة.
وأشارت وکالة المدی الإخبارية يوم 29 من نفس الشهر إلی رغبة الحکومة المحلية واستعدادها للمساعدة  في إعمار المصفاة. وذکرت صحيفة “مورننغ ستار” اليومية البريطانية يوم 30 أکتوبر /تشرين الأول أن المسلحين “اقتحموا أکبر مصفاة في العراق في مدينة بيجي ونهبوها بعد أسابيع من استعادة قوات الحکومة السيطرة علی المجمع” ونسبت ذلک إلی مسؤول أمني الذي أضاف أن “المصفاة تتعرض إلی هجمة غير مسبوقة من النهب والتخريب”.
تفکيک ونقل لإيران
أما الاتحاد الأوروبي العراقي للحرية (حرية) ومقره بروکسل ويرأسه سترون ستيفنسن الذي رأس سابقا وفد البرلمان الأوروبي للعلاقات مع العراق بين 2009 و2014،  فقد ذکر يوم 23 ديسمبر/کانون الأول أن  “مصفاة بيجي -أکبر مصفی بالعراق- تفکک وتنقل إلی إيران”. وأضاف أن “المليشيات تنهب المعدات الثقيلة والمکائن وأسلاک النحاس إضافة إلی ممتلکات المنتسبين الخاصة”.
وهذا أمر صعب التصديق أو مبالغ فيه لو لم تظهر أخبار لاحقة تصب في نفس الاتجاه، خاصة وأن القدس العربي يوم 3 سبتمبر/أيلول  2015 أشارت إلی نشاط للحرس الثوري الإيراني في المنطقة.
وطوال هذه المدة، لم تخرج وزارة النفط عن صمتها لتکذب هذه الأخبار وتؤکد نيتها في المحافظة علی المصفاة ومعداتها، وفي إعادة بناء المصفاة التي کانت تجهز ما يقرب من 40% من إنتاج العراق من المشتقات النفطية.
وقد فسر ذلک علی احتمال أن الوزارة لا تستطيع الوقوف في وجه المليشيات، أو أنها أهملت متعمدة تصرفات المليشيات لتجعل عملية الإصلاح غير عملية.
والأهم من کل ذلک، أن “تقرير العراق النفطي” المتابع لأخبار العراق النفطية بانتظام قد صدر يوم 28 يناير/کانون الثاني بمقالة تخص مصفاة بيجي بعنوان “کان قابلا للإصلاح لکن نهب بعد ذلک”.
وأکد التقرير کل ما ورد أعلاه واعتمد علی مقابلات عدة لشهود عيان وضباط أمن في بغداد ومحافظة صلاح الدين، وحتی بعض ضباط المليشيات ومسؤولين کبار في وزارة النفط دون ذکر أسمائهم خوفا علی حياتهم.
لکن التقرير لم يشر إلی فقدان أي من المعدات الرئيسية التي ستکون ضرورية في الإصلاح الجزئي.
وأکد أن إطلاق النار حدث لإجبار منتسبي الوزارة للعودة أدراجهم بقوله “إطلاق النار حدث بسبب کون المصفاة بعهدة المليشيات” وأن أحد ضباطها قال “لن يسمح لأي أحد بدخول المصفاة”.
وأشيع -علی صفحات التواصل الاجتماعي- أن رئيس مجلس محافظة صلاح الدين قد قال إن المصفاة ستغلق إلی أمد غير محدد لمنع العبث والسرقة حتی تتسلم الشرطة مسؤولية الحفاظ علی المصفاة.
لکن تقرير العراق النفطي قال “إن بعض منتسبي المصفاة وضباط الأمن ادعوا أن الحکومة الاتحادية مرتاحة لتفکيک المنشآت” لأنها لا تريد أن تستثمر في منشآت رئيسية في مناطق تتمتع بوضع ديموغرافي کـ بيجي”.
ويشير التقرير إلی أن هناک مزايدة تتم داخل المصفاة لبيع “غنائم الحرب”. ويضيف أن “رجال أعمال من بغداد وإيران سمح لهم بالدخول إلی المصفاة للمزايدة علی بعض المعدات المتحرکة أو الثابتة”. وإذا لم يکن هناک شک بالوجود والدور الإيراني في بيجي، فتبقی مسألة تفکيک المعدات ونقلها إلی إيران ممکنة، لکن بحاجة إلی إيضاحات أکثر.
وطبقا للتقرير، فإن “أحد کبار مسؤولي محافظة صلاح الدين حاول وقف عمليات السرقة بطرح الموضوع علی رئيس الوزراء حيدر العبادي ووزارة النفط وقيادة الحشد الشعبي، لکن الجميع أهملوا نداءه” بينما قامت إحدی نقاط التفتيش في بغداد بحجز خمس ناقلات کبيرة تحمل معدات من بيجي، وتم اقتيادها بتوجيه من وزارة النفط لإنزال المعدات المسروقة في أحد مواقعها. ونشر بعض الناشطين صورا للناقلات والمعدات.
وقال قائم مقام بيجي محمد محمود “إن أدوات ومعدات ومواد أخری قد سرقت من مصفاة بيجي، وإن قوی الأمن قد بدأت إجراءات قانونية لمنع السرقات التي تعيق محاولة تشغيل المصفاة”.
وفي اجتماع للمنتدی العراقي للنخب والکفاءات في إسطنبول مؤخرا، قلت إن الکلفة التعويضية للمصفی قد تصل إلی 12 مليار دولار، لذا علی حکومة العراق مسؤولية کبيرة لوقف العبث بمنشآت المصفاة واستعادة المعدات المسروقة وعدم دفع العراقيين لليأس منها.
___________
خبير نفط عراقي
المصدر : الجزيرة

زر الذهاب إلى الأعلى