مقالات

الأسد ورقة مساومة لإيران في سورية

 



الحياة اللندنية
13/8/2015



بقلم: لينا الخطيب



بعد الاتفاق علی صفقة نووية أولية مع إيران، سيکون الملف السوري هو الملف الدولي التالي الذي تفاوض عليه طهران. ليس مردّ ذلک أن إيران تمضي علی طريق تحقيق النصر في سورية، بل لأن التطوّرات الأخيرة في سورية أجبرت إيران علی تغيير حساباتها في شأن دورها في الصراع. فبدلاً من الدعم غير المحدود للنظام السوري، أصبح هدف تدخّل إيران في سورية اليوم هو التمسک بالرئيس السوري بشار الأسد فقط لاستخدامه کورقة مساومة في المفاوضات الدولية لإيجاد تسوية للصراع.
جاء تغيير إيران لاستراتيجيتها في سورية کنتيجة مؤلمة لحساباتها الخاطئة في التعاطي مع الصراع الذي بدأ قبل وقت طويل من تحوّل الانتفاضة السورية إلی حرب أهلية. فإيران اعتقدت أن في وسعها توجيه الانتفاضة في سورية لمصلحتها الخاصة، وأن مساعدة النظام في سحق ما کانت آنذاک انتفاضة سلمية، ستکون مهمة سريعة وسهلة من شأنها الإبقاء علی الوضع القائم. ولکن الانتفاضة السورية تطورت إلی صراع مرير تلقّی الجيش السوري فيه ضربات کبيرة من المعارضة السورية المسلّحة المعتدلة، وکذلک من مجموعات جهادية لا تُعدّ ولا تُحصی.
وبالتالي، أصبحت إيران تشعر بالقلق في شأن بقاء نظام الأسد، ليس لأن دمشق کانت حليفاً سياسياً لطهران في «محور المقاومة» ضدّ إسرائيل وحسب، بل أيضاً بسبب علاقتها مع «حزب الله»، الذي ينقل الأسلحة التي تزوّده بها إيران إلی لبنان عبر سورية. وبما أن الحزب يبني قوته السياسية في لبنان علی أساس امتلاک الأسلحة التي يخيف بها معارضيه السياسيين اللبنانيين، فقد استدعته طهران للقتال في سورية لدعم نظام الأسد. جری ذلک في البداية عبر إرسال مستشارين عسکريين مخضرمين من الحزب إلی سورية. ولکن مع تنامي الصراع من حيث طوله وشدّته، تغيّر التکتيک ليتحوّل إلی إرسال قادة وقوات في «حزب الله». کما أرسلت إيران مستشارين من «الحرس الثوري» وأنشأت ميليشيات سورية محليّة (قوات الدفاع الوطني) لمساعدة الجيش السوري.
ولکن في حين نجح هذا الدعم لفترة من الوقت، قابلته زيادة الدعم للمجموعات الجهادية من مختلف الجهات المانحة. بدأت الانتصارات المتتالية لـ «حزب الله» وإيران بالتلاشي عندما ضخّ الطرفان المزيد من الموارد البشرية والمادية في الصراع السوري. فما کان قد بدأ کتدخّل قصير الأمد تحوّل إلی معرکة وجودية لـ «حزب الله»، وبالتالي لنفوذ إيران في بلاد الشام.
أدّی صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في سورية، والتقدم الذي أحرزه لاحقاً في العراق، إلی خلق مشکلة أخری لإيران. في البداية، کانت المجموعات الجهادية السنّية الصغيرة في سورية مفيدة لاستراتيجية إيران لأنها «أثبتت» أن الأسد لم يکن يقمع انتفاضةً سلمية، بل يحمي سورية في مواجهة تهديد التطرّف العنيف. ولکن عندما تحوّلت الساحة الجهادية إلی ساحة تهيمن عليها أغنی منظمة إرهابية في العالم، مع تقدّم تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، وجدت إيران نفسها في مواجهة تهديد وجودي محتمل يزحف نحو حدودها.
کانت العقوبات الدولية المفروضة علی إيران بسبب برنامجها لتخصيب اليورانيوم قد أضعفت اقتصادها بالفعل، کما تسبّب دعمها لأنشطة «حزب الله» في کلٍّ من لبنان وسورية بضغوط مالية کبيرة علی طهران، غير أن الجبهات الجديدة في العراق کانت تتطلّب تکريس المزيد من الموارد لحماية المصالح الإيرانية. ونتيجةً لذلک، تعرّضت إيران إلی مزيدٍ من الضغط عندما بدأت برعاية الميليشيات الشيعية في العراق لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبدعوة «حزب الله» وقوات النخبة في «الحرس الثوري» إلی وقف تيار «الجهادية التکفيرية» في البلاد. وجدت إيران نفسها تخوض معرکتين ضخمتين دفعة واحدة، وکانت بحاجة إلی اتّخاذ قرار في شأن المحافظة علی مواردها. ولأن إيران محاصرة في العراق أکثر مما هي عليه في سورية، اختارت إعطاء الأولوية إلی العراق. علی سبيل المثال، تم استدعاء اللواء العراقي «لواء أبو الفضل العباس» من دمشق إلی العراق فور استيلاء تنظيم «داعش» علی الموصل.
في الوقت نفسه، بدأت المملکة العربية السعودية تضيق ذرعاً بتصرّفات إيران في العالم العربي وکذلک بافتقار الغرب إلی استراتيجية لإنهاء الصراع السوري. راهنت الرياض علی وجود إحباط مماثل لدی قطر وترکيا، وعمدت إلی زيادة الضغط علی النظام السوري بعد التنسيق مع حلفائها، فبدأ النظام السوري و»حزب الله» يتکبّدان المزيد من الخسائر. وتفيد معلومات أن «حزب الله» خسر ربع قوات النخبة الخاصة لديه في الحرب السورية، في حين تقلّص عديد الجيش السوري إلی مجرّد نصف ما کان عليه قبل العام 2011. وبدأ النظام السوري والحزب في الاعتماد بشکلٍ متزايد علی مقاتلين ومرتزقة عديمي الخبرة، يتم استقطابهم من بلدان خارجية مثل أفغانستان.
وبالتالي، تحوّلت استراتيجية الأسد في سورية، بيد أن هذا التحوّل ليس في مصلحة إيران. فبدل محاولة الحفاظ علی وجودٍ للجيش السوري في جميع المحافظات السورية تقريباً، يتراجع النظام الآن في العديد من المناطق التي يسيطر عليها المعارضون أو تنظيم «داعش»، ويرکّز علی إحکام سيطرته علی معاقله في الساحل الغربي ودمشق. وتتمثّل حسابات الأسد في أنه إذا ما نجح «داعش»، في نهاية المطاف، في التغلّب علی سائر المجموعات في سورية، يستطيع أن يُظهر للمجتمع الدولي أن سورية أمام خيارَين: إما نظامه أو تنظيم «داعش». ولکن کلّما قويت شوکة التنظيم في سورية، استمر في تهديد المصالح الإيرانية في العراق.
نتيجةً لکل تلک التطوّرات، أدرکت إيران أن الرهان علی الأسد لکسب الحرب يعني الرهان علی حصان خاسر. لذلک، غيّرت استراتيجيتها من الاستمرار في ضخّ الموارد في سورية لدعم الأسد، إلی استراتيجية تتمثّل في مجرّد الحفاظ علی النظام عبر استخدام الحد الأدنی من الموارد. وتصرّ طهران علی عدم إرسال قوات إلی سورية، کما أعادت توجيه رسائل للغرب والدول الإقليمية مفادها أنها مهتمة بعقد صفقة کبری في شأن دور کلٍّ من هذه الدول في منطقة الشرق الأوسط، وأن الصفقة لن تشمل سورية وحسب، بل أيضاً ملفات أخری مثل اليمن.
علی رغم أن شکل هذه الصفقة الکبری غير معروف حتی الآن، من المرجّح أن تشمل قبول إيران تشکيلَ حکومة انتقالية في سورية تحتفظ بعناصر من النظام الحالي، وتضمن امتيازات «حزب الله» الحالية. ولا تزال إيران تصرّ علی ضرورة أن يؤدّي بشار الأسد دوراً في هذه الصفقة، بحجّة أن الانتخابات ستُجری في نهاية المطاف، وبالتالي ستنتهي رئاسته بصورة طبيعية. مع ذلک، المقصود من ذلک هو استرضاء الأسد فقط بحيث تضمن إيران أن يحتفظ ببعض الأهمية، لأن إسقاطه الآن يعني خسارة فادحة لإيران.
بدلاً من ذلک، يعني التمسّک بالأسد بينما تُجری المفاوضات في شأن تسوية الصراع السوري أن إيران يمکنها استخدامه کتضحية صغيرة مقابل تحقيق مکاسب أکبر تتمثّل في تشکيل حکومة تحظی بمبارکة الغرب، وکذلک الجهات الفاعلة الإقليمية مثل السعودية، طالما أن هذه الحکومة تحافظ علی مصالح إيران في بلاد الشام. ولذا، فقد الأسد مکانته کحليف لطهران وأصبح مجرد ورقة مساومة لإيران في سورية.
 
 
* کاتبة لبنانية ومديرة مرکز کارنيغي للشرق الأوسط في بيروت

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى